قالوا إن الأشياء تفقد جَمالها حين تفقد قيمتها؛ وأقول بل الأشياء تفقد قيمتها حين تفقد جَمالها، والجَمال هنا أقصده بمعناه الواسع؛ فالحُبّ مثلًا أَسْمى مراتب الجَمال، مِن دونه تصبح الحياة عبئًا ثقيلًا؛ فما أجمل من أن نسعى لنملأ فراغ الرُّوح بالحُبّ لتزدحم به جنباتها وتزدان جدرانها.
هو سر الحياة الذي يغيرنا من الداخل والخارج، ويذيب كل المشاكل والهموم؛ ماء الحياة الذي لا يمكن أن نحيا بدونه؛ به يصبح الإنسان نفحة من بهاءٍ تشعّ في الكون.
أما البوح فهو أعلى درجات الجَمال وأجَلّ أسراره؛ فالإنسان مخلوق من أحاسيس، ومجبول على التفاعل العاطفي، وكَتْم المشاعر يبلد العواطف، ويجمد الإحساس، ويمحو زهو الرّوح ولونها المشرق، ويفسح للون الرمادي الكئيب أن يزحف ويتسيّد ويستبد بنا؛ بعدها يقسو القلب؛ فيتيح للكُره والعداء بل والإرهاب والتطرف أن يمرحوا في النّفْس.
رغم تأكدي من أنّا تربينا في مجتماعاتنا العربية على ثقافة الكتمان سِيّما المشاعر الإيجابية كالحُبّ والعرفان والشّكر والامتنان؛ من باب الخجل أو الكِبر أو محاولة الحفاظ عل صورتنا الجادّة؛ وكأنّا حين نبوح بحبّنا وما نحمله من مشاعر نبيلة للآخرين سنفقد كرامتنا! رغم إدراكي لكل هذا إلا أنّي ممن يرون ضرورة تسلّق صخور الرّوح الوعرة، لنُعبر لأحبائنا عن مشاعرنا الإنسانيّة الجميلة سواء أكانوا من الأهل والأحبّة أو الصحابة أو الجيران.
وهنا يحضرني قول المصطفى صلى الله عليه وسلم": من كان لأخيه المسلم في قلبه مودة ولم يعلمه فقد خانه"، وقال: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إيّاه". فالتعبير عن المشاعر يجدد العلاقات ويجعلها أكثر جمالًا وبهجة وحيوية، وبها يستشعر الإنسان قيمته في الحياة.
التفاؤل إحدى مناحي الجَمال التي لا غنى عنها؛ فكثير ما يعصرني الألم وأنا أُطالع كل يوم على صفحات التواصل الاجتماعي كلمات ومنشورات لشباب يملؤهم اليأس والإحباط والملل وفقدان الأمل؛ فماذا رأوا من الحياة وهم مازالوا على عتباتها؟! حَريّ بهم أن يكونوا مُفعمين بالتفاؤل والإقبال على الحياة؛ وإلا لفقدت مقولة: "ألا ليت الشباب يعود يومًا" سحرها وقيمتها. لهؤلاء أقول وكما أقول لنفسي دائمًا ترنيمة لشاعر لا أعرفه: روّح النفس بالسلو عنها.. لاتكن جالبًا الهموم إليها.. وإذا نابها الزمان بخطبٍ.. لا تكن أنت والزّمان عليها".
نعم مليئةٌ هي الحياة بالمنغّصات والآلام؛ لكنّا لا يجب أن نموت قبل موعدنا، فمن يتأمل الحياة والكون حقًا لسوف يدرك أسرارًا كثيرة من الرّوعة، وابوابًا أكثر للسّعي والرّزق والنّجاح تجعلنا نعزف مع الكون موسيقى متناغمة؛ مدهشة؛ موقنين أن: "الدّهر لا يبقى على حاله.. لابد ما يقْبل أو يدْبر.. فإن تلقّاك بمكروه.. فاصبر فإنّ الدّهر لا يصبر".
تخليص الرّوح من لوثة الكراهية والتعصّب؛ فحين تتقاذفنا الأحزان لنصل لقمة يأسنا؛ علينا البحث عن أمل جديد؛ أو عمل جديد؛ أوممارسة هواية نحبها؛ أو عقد صداقة جديدة يتبرعم القلب حولها مُعلنًا ميلاد زهرة جديدة، نجدّد بها طلاء جدران قلوبنا، موقنين أنّ الدّرب حين نمضي فيه سيتسع تلقائيًّا، وينقشع ضباب الفشل، وترنو لنا الأقدار وتتلطّف بنا لتغدق علينا من سابغ عطفها وحنانها.. فنحن لم نُخلق في الدنيا عبثًا، ولم نُخلق لنُعذب ونكتئب، بل لنحيا ولندرك قدرتنا على إعمار الكون وزيادة صلاحه.
الحبّ والتفاؤل والبوح وتنقية الروح من لوثة الكراهية؛ كلها قيم تجعلنا نستشعر الجَمال فيما حولنا، لنمد بينها وبين قلوبنا خيوطًا حريريّة، تُعلّمنا أن تعشق الحياة بحلوها ومرّها.
فمن أشواك الزّهر يُصنع التّرياق، والبرتقال المُرّ "النارنج" يقطر رُوحَه ليهبنا ماء الزّهر، وما أجمل أن تمرّ بنا سفينة الزّمن وقد تدثّرنا بأبهى الصّفات، وحملنا أجمل مشاعر أوصلناها لأصحابها وأوصلوها لنا؛ وقتها سنمتلك ماضيًا معبقًا بدفء الذّكريات، وحنينًا يعيننا على مواصلة ما تبقّى من العُمر الجميل... فالفقير الحقيقي فقير الذّكريات.
----------------------
بقلم: حورية عبيدة